"أم الفقير" .. هكذا كانت تعرف مدينة حمص على مرّ السنين، يعيش فيها البسطاء حياة مقبولة كلٌ حسب إمكانياته، نظراً لتدني الأسعار وتوافر كافة المواد والصناعات والمهن.
لكن الحرب التي غيرت كثيراً في البلاد، أرخت بظلال ثقيلة أيضاً على حمص، وسكانها، فمع ندرة الأسواق في بداية الأحداث من جهة، وارتفاع أسعار صرف الدولار من جهة ثانية، لم يعد للفقير مكان فيها، ولم تعد تلك الأم الرؤوم على أبنائها، ولم يعد للبسطاء من سبيل، فالغلاء الحالي وارتفاع الأسعار جعلا من أسواق حمص "سياحية" ولاسيما بما يتعلق بلقمة الناس.
نقطة اشتباك
يقول "أبو أحمد" وهو من سكان حي عكرمة إن الأسعار "تسبب الصداع لأي مواطن، وخاصة أسعار الخضار والمواد الغذائية، وأن الوضع لم يعد يحتمل، ولا يوجد حتى الآن أيّة إجراءات تضبط الأسواق وتمنع انفلات الأسعار بهذا الشكل".
تؤكد "مريم" على الفكرة نفسها، وتضيف أن "الألف ليرة سورية لم تعد تكفي لشراء كمية قليلة من البطاطا والبندورة فقط" وأن أي وجبة تريد تجهيزها لأطفالها ستكون بتكلفة لاتقل عن ألفي ليرة سورية و"كان الله بعون الناس اللي ما معها مصاري"، تختم حديثها بأسى.
كانت حمص تشتهر بعدد من الأسواق، وكانت تشهد تنوعاً كبيراً يسهم في زيادة التنافسية، وبالتالي انخفاض الأسعار، لكن الواقع تغير.
اشتهرت حمص بسوقها المركزي وسط المدينة، وكان يضم عدداً من الأسواق مختلفة الحرف والمهن، ويتوسط أحياء حمص القديمة، التي صارت فيما بعد مسرحاً لأحداث عنف واشتباكات.
يتألف السوق المركزي من عدة أسواق أشهرها "السوق المقبي" و"سوق الناعورة" و"سوق الدبلان"، وكانت هذه الأسواق مقصداً لكل الناس في المدينة وريفها، إلا أن الحرب فرضت واقعاً مختلفاً، استغل المتظاهرون في بداية الأحداث رمزية هذه الأسواق، وجعلوها منطلقاً لحراكهم، حتى وصل الأمر إلى محاولة جعل مركز السوق نقطة اعتصام.
بعد فشل هذه الخطوة أخذت الأحداث منحى مغايراً لانتقال الحراك إلى واقع مسلح، أثر بشكل كبير ومباشر على السوق المركزية، ما أدى في النهاية إلى إغلاقه لانتشار المسلحين في حمص القديمة، وكونه أصبح منطقة اشتباكات امتدت لسنوات.
خسائر كبيرة
يقول رئيس مجلس مدينة حمص المهندس "حسان النجار" إن الخسائر التي لحقت بالأسواق جراء الأحداث الأخيرة كانت كبيرة جدا،ً ووصلت ما بين 20% إلى 60% ولكن هناك توجّه من قبل مجلس مدينة حمص لدعوة كافة التجار وأصحاب المحال المتضررة للعودة إلى محالهم لتنشيط السوق مجدداً، ومع عودة الحياة لحمص تدريجياً بخروج المسلحين من حمص القديمة، وإعادة تفعيل مركز المدينة، بدأ العمل بشكل كبير لإعادة إحياء السوق المركزي، والأسواق الأثرية فيه، ويضيف المهندس "حسان" أنه حالياً يتم ترميم الأسواق بالتعاون مع الأمم المتحدة، عبر برنامجها UNDP المتضمن مرحلتين بتكلفة تصل إلى 300 ألف دولار للمرحلة الواحدة، والتي تضم القيام بأعمال الطلاء، وتركيب الأبواب والأسقف الخاصة بالمحال، والأسقف الخاصة بالأسواق القديمة، أو ما يعرف بالسوق "المقبي"، كما تضمن كل مرحلة تجهيز المحال بالطاقة الشمسية والصرف الصحي، وتأمين الماء والكهرباء، وترميم أرصفة الأسواق.
وفيما يتعلق بسوق القيصري الأثري، فقد تم ترميمه بشكل كامل، بما في ذلك إعادة رصف أرضية السوق.
ويؤكد المهندس "حسان" أن المرحلة الأولى تم الإنتهاء منها، وبدأ العمل في المرحلة الثانية، بما يضمن في النهاية إعادة تراث حمص وتفعيل الأسواق مجدداً من خلال دعوة التجار للعودة والعمل داخل محلاتهم.
حلول بديلة
ظهرت خلال الأحداث أسواق محلية بديلة في بعض الأحياء، كانت كفيلة بأن تسد حاجة الناس في المدينة بشكل نسبي، وخاصة بما يتعلق بالحاجة إلى المواد الغذائية والألسبة، إلا أن باقي المهن التي تتعلق بتجارة الموبيليا والأخشاب والمفروشات خسرت الكثير جراء إغلاق السوق، وذلك لوجود ورشاتها ومحالها في حيّي "باب هود، وجورة الشياح" والأسواق القديمة.
"مهران" وهو تاجر موبيليا، يقول أنه تأثر قبل الأحداث كغيره من التجار بدخول البضائع التركية إلى الأسواق بشكل كبير، وبأسعار منافسة بقوة أضرت بجميع تجار الأخشاب والموبيليا في حمص، ومع ذلك استمر بالعمل محافظاً على مهنته، إلا أن خروج السوق عن العمل، والأحداث التي طالت جميع أحياء المدينة دون استثناء بعد نهاية العام 2011 قضى على هذه التجارة بشكل كبير، وخصوصاً في السنوات الأولى، ولكن الحال أصبح أفضل مؤخراً مع عودة الأمان إلى المدينة، والعثور على أماكن بديلة للعمل على الرغم من ارتفاع أسعار المواد الأولية بشكل كبير.
بينما يقول "سامر" وهو تاجر أقمشة وألبسة جاهزة، إن الأسواق بدأت بالانتعاش في الأشهر الأخيرة، وخصوصاً سوق الدبلان الذي يعتبر من رموز حمص التجارية، وأن الحركة فيه مقبولة على الرغم من ارتفاع الأسعار المتعلقة بارتفاع سعر صرف الدولار وأجور النقل والعمالة، ويضيف أن تجارة الأقمشة تحديداً تأثرت أيضاً بإغلاق السوق في بداية الأحداث، وأن هناك عدداً كبيراً من مستودعات الأقمشة تعرضت للتخريب والحرق من قبل المجموعات المسلحة، وخاصة قبل بدء تنفيذ اتفاق حمص القديمة، في العام 2014، حيث أحرق مسلحون عدداً كبيراً من المحال قبل خروجهم.
هل تعود؟
من المنتظر أن تعلن حمص المدينة خالية من السلاح خلال الفترة القريبة القادمة، ما سيؤثر بشكل مؤكد على عودة رؤوس الأموال والتجار إلى المدينة للاستثمار، وإعادة الحياة للأسواق، ولربما يكون لذلك أثر على خلق حالة من التنافسية تؤدي إلى انخفاض الأسعار، وتساعد المواطن الحمصي البسيط على تأمين احتياجاته اليومية على أقل تقدير.